الأحد 28 ديسمبر 2025 07:04 مـ 8 رجب 1447 هـ
بوابة النور الاخبارية
رئيس التحرير محمد حلمي
×

البحث عن الحقيقة.. الهوية المفقودة

رؤية في رواية ”المستعصمية” - د. هشام ابو النجا

الأحد 14 ديسمبر 2025 11:02 صـ 23 جمادى آخر 1447 هـ
رؤية في رواية ”المستعصمية” - د. هشام ابو النجا

كتبت إلهام عفيفي

لم نستوعب إلا حديثا كيف تعرض التاريخ الإسلامي للتشويه عبر الفترات المتعاقبة، عندما عايشنا محاولات طمس الهوية الحضارية للأمة وضعف انتماء الأفراد لماضيهم، وأُفقد المجتمع الوعي التاريخي والنقدي حين حُرم الناس من القدرة على استخلاص العبر وفهم الحاضر في ضوء الماضي، فالتاريخ العربي والإسلامي ليس مجرد سرد لأحداث، بل هو تجسيد عملي لتطبيق الإسلام في الواقع، وهو ما يجعل تشويهه بمثابة تشويه للدين نفسه، وحتى نواجهه يجب علينا العودة إلى المصادر الأصلية، والغوص في الكتب المعتمدة والدراسات الجادة والتحقيق العلمي باعتماد المنهج النقدي والتحليلي، وتعزيز الوعي المجتمعي.

وهذا ما يسعى اليه كاتبنا د. هشام أبو النجا حين يغوص في التاريخ باحثا عن حقيقة كل شخصية او قضية يكتب عنها؛ فهذه الرواية التي نحن بصدد التقديم لها اليوم ليست أول إبداعاته في هذا السياق، وقد منحها اسم "المستعصمية" -وهو أحد أسماء الملكة العظيمة "شجر الدر"- في محاولة منه لإلقاء الضوء على سيدة تولت حكم مصر في فترة صعبة من تاريخها.

استلهم الكاتب في رواية "المستعصمية" واحدة من أكثر الفترات إثارة في التاريخ الإسلامي والمصري، وهي فترة حكم شجر الدر وصعود المماليك بعد سقوط الدولة الأيوبية، والذي دام حكمهم في مصر والشام من عام 1250 إلى 1517م، وذلك عبر دولتين متعاقبتين هما دولة المماليك البحرية (1250-1382م) ودولة المماليك البرجية (1382-1517م)، وشهدت هذه الفترة انتصارات عسكرية هامة ضد المغول والصليبيين، ونهضة ثقافية وعمرانية، قبل أن تنتهي مع هزيمة المماليك أمام العثمانيين.

ولأن البداية كانت عندها بعد وفاة زوجها الصالح نجم الدين أيوب، حيث تولت المستعصمية الصالحية أم خليل (شجر الدر) حكم البلاد، بعد مبايعة قادة المماليك وفرسانهم لها، ليبدأ حكم دولة المماليك بأنثى؛ لكنها كما وصفها الكاتب ليست مجرد انثى، انما هي الجمال والذكاء والحكمة في أنثى.

لم يصلنا الكثير عن شجر الدر، وربما يكون هذا ما دعا الكاتب لاختيارها فحين تجد شخصية تاريخية أثرت في مسيرة وطنها تأثيرا يثير الشغف ويوقظ العقل، ورغم ذلك لا تجد سعة من المكتوب عنها، فتأكد أن تاريخها قد تم اخفاؤه عن عمد، وها هو كاتبنا يفتح لنا بابا على تاريخ هذه الشخصية ليضئ لنا إحدى غرف الحقيقة المظلمة.

رغم أن الرواية تحكي عن شجر الدر إلا أنها لم تظهر بشخصها إلا في الجزء الثالث، وكأن الكاتب قصد أن يصنع من شخصيتها طيفا مسيطرًا على السرد الروائي وسلوك الشخصيات الرئيسية فيها، مما أضفى عليها بهاءا وهيبة بل وملائكية في بعض الاحيان.

فجاء وصف الكاتب لشجر الدر الصغيرة -أو جوزال كما اطلق عليها إيشان حين التقوا في الاسر- "وكأنها تمثل جسرا بين عالمين، فهي تُعلم أصدقائها من الفتيان النجوم واللغة والأرقام، وتمنحهم هوية وسط الغربة"، حيث يكرر الكاتب الإشارات إلى "القدر" و"المصائر" و"الزمن"، مما يعكس شعور الشخصيات بالعجز أمام مسار الحياة، لكن مع بصيص أمل دائم.

استخدم الكاتب تقنية الراوي متمثلا في "باريش" أحد خشداشية الملكة شجر الدر، وهو الراوي المشارك في الأحداث، ليروي من منظور شخصي، أعطى الرواية طابعًا حميميًا مؤثرًا، ويتنقل الراوي بين الماضي والحاضر، فيعيش معنا أحداثا آنية، ثم يستخدم تقنية الفلاش باك فيعود الى الماضي ليسرد القصة منذ البداية حتى لحظة وجوده مع المتلقي وهو السلطان بيبرس، في استخدام لنوع من السرد الدائري ولكن مع رواية تاريخية، فليس هناك بداية ونهاية محددين، وإنما أحداث متكررة -سلطة ثم اختلاف فقتل ثم سلطة جديدة- ربما تربك القارئ، لكنها في كل مرة تضيف إلى الأحداث من التفاصيل ما يسهم في كشف جزء آخر من الحقيقة، ما من شأنه أن يدفع بدوره الأحداث في مسارات جديدة.

ورغم ارتباط السرد الدائري غالبا بالأفكار الفلسفية، لأنه خلافا لأسلوب الفلاش باك، لا يقتصر على تقديم معلومات جديدة للقارئ تضاف إلى قناعاته الحاضرة، وإنما يطرح تساؤلات فلسفية من خلال مواقف غير تقليدية تتعلق بموقف الإنسان من العالم وترتيب الأحداث في الزمان.

وعلى نفس النهج يأتي السرد المزدوج أو المتوازي، الذي يُعنى بقضية الجبر والاختيار، ويحاول أن يقدم الإجابة عن السؤال السرمدي: إلى أي مدى يمكن أن يتحكم الإنسان بمصيره؟ وإلى أي مدي يمكن للقدر أن يحرف المسار بحيث تمضي الحياة على غير ما يرغب أو يريد الإنسان؟

يعتمد السرد في هذه الحالة على طرح الاحتمالين في وقت واحد، بحيث تمضي الأحداث في خطين متوازيين، لا يفضل أحدهما الآخر، فقط يعكس لنا السرد تفاصيل الحياة والمصير الذي ينتظر الشخصيات في نهاية كل طريق.

وقد نجح الكاتب في روايته أن يمزج بين الأساليب الثلاثة؛ حيث استخدم السرد الدائري حين انتهى بروايته الى نقطة البداية كما يُتبع في الروايات البوليسية، وذلك من خلال استخدامه لأسلوب الفلاش باك، مع استخدامه للسرد المزدوج حين جاء السرد عن طفولة الشخصيات وحياتهم كعبيد ثم أحرار، وكأنه يتساءل: هل جعلتهم الحرية يستطيعون التحكم بمصائرهم؟

تنوعت الأماكن في الرواية فبدأت في القاهرة ثم غزة، ووصلت مع شخصياتها إلى نيسابور، مرو، الري، همدان، بغداد، دمشق، ثم العودة إلى القاهرة، ويعكس هذا الامتداد الجغرافي رحلة من التيه والبحث عن الذات والحاجة إلى الحب، كما نجد الأماكن رئيسية كانت أم فرعية تمثل رموزا خاصة فالحرملك رمز للحواجز الاجتماعية والسياسية والعاطفية، والقاهرة ليست مجرد مدينة، بل تمثل المصير، وربما الخلاص أو المواجهة الكبرى، والصحراء هي فضاء التيه والانتظار، لكنها أيضًا مسار التحول، ومما لفت نظري وصفه الرائع لمدينة القاهرة والتي أزعم أنني لم أقرأ وصفا بمثل هذا الجمال، والذي يقول في نهايته:

"كانت القاهرة يوم أن دخلناها تجمع بين الصلابة والفتنة، بين يد تبني السيف ويد تزرع الورد. مدينة لا تعرف الحرب ولا تنسى الفن. هي مدينة تعرف الحيلة لكنها لم تلجأ إليها لإيمانها الشديد بالقدر. بالفعل هي مدينة قاسية الملامح، نبيلة الروح، ولدت من الغربة لكنها صارت وطنًا للعالم."

رغم تاريخية الرواية وزخم الصراعات السياسية الدامية، والحروب، إلا أن الكاتب نجح في تجنب الحديث عن العنف والدماء دون المساس بجوهر الرواية، وكأن الرواية من بدايتها تمثل صرخة ضد فقدان الحرية، حيث يُساق الأطفال كالأغنام، وتُجرد أجسادهم من الثياب والكرامة، حتى حين تتحرك القلوب للحب لا يستطيعون البوح، فنجد العلاقة بين أيشان وجوزال تمثل محورًا عاطفيًا عميقًا، ورغم أنه حب ممنوع إلا أنه يتحول إلى دافع للمقاومة والبحث.

يستخم الكاتب لغة شاعرية ناعمة فالرواية تزخر بالصور البلاغية مثل: "الليل ثقيل كأن جدران القصر تتآمر على قلبه"، "السماء تلبس لون الغبار"، "الشمعة ارتجفت كأنها شعرت بالنداء"، وذلك في تناغم داخلي في الجمل، وتكرار مقصود لبعض العبارات "أنا هنا يا جوزال" يمنح النص طابعًا ملحميا.

ومن السمات الشعرية أيضا تشخيص الأشياء، "كان القمر معلقًا في السماء كعين تسهر عليه، يسكب ضوءه على أرض الحديقة الصامتة" أو "الحرملك الذي يسكنه الغموض"، مما أضفي طابعًا أسطوريًا على السرد.

منح الكاتب شخصياته سمات جعلتهم يمثلون رموزا ومبادئ؛ فباريش (الراوي) هو الصديق الوفيّ، المتأمل، الذي يحمل عبء الذاكرة، وأيشان هو البطل العاشق الشجاع، المخلص، المدفوع بالحب، لا يعرف الاستسلام، وجوزال هي المحبوبة الملهمة المثقفة، الغامضة، رمز الحرية والمعرفة؛ والتي أصبحت الملكة الحكيمة الحاسمة، وأرسلان هو الأمل، طفل لكنه يملك نضجًا، ينقل الأخبار ويشعل الأمل، وأخيرا السلطان بيبرس المستمع/المرآة يمثل الحاضر الذي يصغي للماضي، ويعكس أثره. يقول الكاتب في وصف حال إيشان في المعركة:

"لكنه ظل يتقدم و يضرب بسيفه كأنما يقتطع من الليل شعلة نور. كان وكأنه يفتح الطريق لا لنفسه، بل للحق الذى آمن به ألا وهو نصرة جيش الإسلام، فجأة أصبح أيشان وحيدًا في وجه حشد من المغول، لكن وقفته وحدها أربكتهم كأنما في حضوره تجسدت روح أسطورة قديمة كانوا يسمعون عنها، تحمل أيشان الطعنات بصدر مفتوح ، كانت كل ضربة يتلقاها تزيده تصميمًا حتى تلك الطعنة الأخيرة التي أتته من الخلف، لم يسقط على ركبتيه ، بل ظل واقفًا وسيفه مغروسًا في الأرض إلى جواره، كان وكأنما يقول لقد نلت الشهادة وأنا شامخ مثل أشجار التلال التي تحيطنا. مات أيشان بشرف، لكن موته كان حياة في قلوب من شهدوا شجاعته"

تتأرجح الرواية عاطفيًا بين الحزن والألم والغضب في جزئيها الأول والثاني، إلى الحيرة والضياع، ثم الأمل، فالترقب والخوف، ثم الانفراج المؤجل، في جزئها الثالث، هذه الموجات العاطفية مما يجعل القارئ يعيش حالة الانجذاب العاطفي للأبطال.

نجح الكاتب في الانتقال بين السرد والوصف والحوار بمنتهى السلاسة مما منح الرواية تنوعًا إيقاعيًا، ورغم طابعها التاريخي إلا أن ذلك لم يقيد خيال القارئ، من خلال لغة فصيحة بسيطة غير متكلفة، مما يجعلها قريبة من القلب رغم عمقها.

والخلاصة:

قدم لنا الكاتب د. هشام أبو النجا مقطوعة سردية أدبية آسرة، تنتمي إلى أدب الرحلة والحنين، وتجمع بين السرد التاريخي والوجداني بلغة شاعرية آسرة، فبين الوقائع التاريخية والخيال الأدبي، صنع مساحة للتأويل والدراما، كما استخدم الحوار الثنائي والذاتي كوسيلة لكشف الصراعات الذاتية داخل كل شخصية، وكذا الصراعات بين الشخصيات وبعضها البعض.

كما أثار الكاتب عددا من القضايا التي أججت الأوضاع السياسية في ذلك الحين مثل:

  • من يحق له الحكم؟ وهل تكفي القوة والحكمة أم يجب أن تكون هناك شرعية دينية أو اجتماعية؟
  • المرأة والقيادة، وكيف نجحت شجر الدر في تحدي التقاليد الذكورية؟
  • التحول الاجتماعي، حين تحول المماليك من عبيد إلى قادة، مما غيّر من بنية المجتمع آنذاك.
  • مفهوم الخيانة والولاء، قتل محمود (قطز) لأقطاي، وقتل المماليك ومعهم بيبرس لمحمود، واخيرا قتل شجر الدر.

وأخيرًا

ليس من المفترض أن يكون استعادة التاريخ العربي والإسلامي من بين ركام التشويه مجرد مهمة أكاديمية، بل يجب أن يكون مشروعًا ثقافيًا وإنسانيًا يعيد للأمة وعيها، ويمنحها أدوات لفهم ذاتها وموقعها في العالم، فالتاريخ ليس ما حدث فقط، بل كيف نرويه، ولماذا نختار أن نتذكره بهذه الطريقة.